فصل: (فرع: غسل الذمية ونية الغسل)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: في عدم وجود مغسل من جنسه]:

إذا مات رجل بين نسوة لا محرم له منهن، أو ماتت امرأة بين رجال لا محرم لها منهم... ففيه وجهان:
أحدهما: ييمم ولا يغسل، وهو قول ابن المسيب، وحماد، ومالك، وأبي حنيفة رحمة الله عليهم، لأن في غسله النظر إلى من ليس بمحرم.
والثاني: وبه قال قتادة، والزهري، والنخعي رحمة الله عليهم: أنه يجعل على الميت ثوب، ويصب الماء من تحت الثوب، ويمر الغاسل يده عليه، وعليها خرقة؛ لأنه يمكن غسله بذلك.
وقال الأوزاعي: (لا ييمم، ولا يغسل، بل يدفن). واختار هذا الشيخ أبو نصر في " المعتمد ".
دليلنا: أن غسله ممكن، على ما ذكرناه، فلم يسقط فرضه.
وإن مات خنثى مشكل، وليس هناك أحد من ذوي محارمه من الرجال والنساء... ففيه أربعة أوجه:
وجهان حكاهما فيه ابن الصباغ، وهما الوجهان في التي قبل هذه في الرجل إذا مات وليس له قرابة، لا من الرجال، ولا من النساء المحرمات عليه، ووجهان حكاهما أصحابنا الخراسانيون فيه:
أحدهما: يُشترى له جارية من ماله إن كان له مال، أو من بيت المال إن لم يكن له مال؛ لأنه لا يجوز للرجال غسله؛ لجواز أن تكون امرأة، ولا يجوز للنساء غسله؛ لجواز أن يكون رجلاً، ولا بد من غسله، ولا طريق إلى جواز غسله إلا بذلك.
والوجه الثاني - وهو قول القفال -: أنه يغسله الرجال والنساء استصحابًا لحكمه في حال الصغر؛ لأن الصغير من الرجال والنساء يجوز للنساء والرجال غسله.
فإن كان الخنثى ذميًا، ولا مال له... لم يكن فيه إلا الأوجه الثلاثة ويسقط شراء الجارية له من بيت المال؛ لأنه لا حق له في بيت المال.
فإذا قلنا: يُشترى له جارية، فاشتريت من ماله... فإنها تكون لوارثه، كسائر أمواله، وإن اشتريت للمسلم من بيت المال اشتريت من سهم المصالح، فإذا فرغت من غسله وتكفينه... بيعت، وأعيد ثمنها إلى بيت المال، ولا حق لوارثه فيها.

.[فرع: غسل الصغير]

قد ذكرنا: أن الصغير من الرجال والنساء يجوز للرجال والنساء غسله.
قال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": وليس في سنه نص، والذي يجيء على المذهب: أنه ما لم يكن مميزًا... غسله الرجال والنساء.
وقال الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما لم يفطم.
وقال مالك رحمة الله عليه: (ما له دون سبع سنين)، وقال أبو حنيفة: (ما لم يتكلم).

.[فرع: يغسل السيد أمته]

وإن ماتت أم ولده، أو أمته القنة... جاز للسيد غسلها.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز)؛ لأنه لا يجوز له وطؤها.
دليلنا: أنه يلزمه الإنفاق عليها بحكم الملك، فكان له غسلها، كالحية.
وإذا مات السيد: فهل يجوز لأم الولد غسله؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها عتقت بموته، فصارت أجنبية منه.
والثاني: يجوز؛ لأنه لما جاز له غسلها... جاز لها غسله، كالزوجة.
وهل لأمته القنة غسله؟ فيه وجهان، حكاهما أصحابنا الخراسانيون:
أحدهما: يجوز لها غسله، كما يجوز له غسلها.
والثاني: لا يجوز، لأنها أجنبية منه، إذ صارت ملكًا لوارثه.

.[مسألة: غسل الكافر]

وإن مات كافر... جاز غسله؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يغسل أباه»، ولو لم يكن جائزًا لما أمره بغسله.
فإن كان له قرابة مسلمون، وقرابة كفار، وتنازعوا في غسله... فالكفار أولى؛ لأنه لا موالاة بينه وبين المسلمين.
فإن لم يغسله الكافر، أو لم يكن له ولي كافر، جاز لوليه المسلم غسله، وكفنه، ودفنه، ولا يجوز له الصلاة عليه.
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا يجوز له غسله، ولا يجوز الصلاة عليه).
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عليًا أن يغسل أباه»، ولو لم يجز له غسله، لما أمره به.
ولأن الله تعالى قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
ومن المعروف غسله إذا مات، ويخالف الصلاة، فإن القصد بها الترحم عليه، والترحم عليه لا يجوز، والقصد بالغسل التنظيف، وذلك يحصل بغسله.

.[فرع: غسل الذمية ونية الغسل]

وإن ماتت ذمية، ولها زوج مسلم... جاز له غسلها؛ لأن النكاح يجري مجرى النسب.
وإن مات المسلم وله زوجة ذمية... قال الشافعي: (كرهت لها أن تغسله، فإن غسلته أجزأه؛ لأن القصد منه التنظيف، وذلك يحصل بغسلها).
فمن أصحابنا من قال: لا يفتقر غسل الميت إلى النية، واستدل بما ذكره الشافعي في غسل الذمية للمسلم؛ لأنها لو كانت واجبة... لما صحت من الكافرة، ولأن القصد منه التنظيف، فلم يفتقر إلى النية، كإزالة النجاسة.
ومنهم من قال: إنه يفتقر إلى النية، فينوي الغاسل أنه غسل واجب؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (إذا وجد الغريق... غسل)، فلما لم يكتف بإصابته الماء علم أن النية واجبة.
ولأنه غسل لا يتعلق بإزالة عين، فوجبت فيه النية، كغسل الجنابة.
ومن قال بالأول... قال: لم يوجب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - غسل الغريق لعدم النية، وإنما أوجبه لعدم فعل الآدمي فيه؛ لأن غسل الميت يجب علينا، فلما لم يفعله الآدمي لم يسقط الفرض عنا.

.[مسألة: ستر موضع الغسل]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويستر موضعه الذي يغسل فيه، فلا يراه إلا غاسله ومن لا بد له من معونته عليه، ويغضون أبصارهم عنه، إلا فيما لا يمكن غيره، ليعرف الغاسل ما غسل؛ لأنه قد يكون فيه عيب يكتمه).
وينبغي أن يكون الغاسل ثقة؛ لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (لا يغسل موتاكم إلا المأمونون).
ولأنه إذا لم يكن ثقة... لم يؤمن أن لا يستوفي الغسل، أو يظهر ما يرى من قبيح، ويخفي ما يرى من جميل.
ويستحب أن لا يكون مع الغاسل إلا من لا بد له من معونته.
ويستحب أن يغسل في قميص رقيق؛ لكي إذا صب الماء... نزل، ولم يقف، فإن كانت أكمام القميص واسعة أدخل الغاسل فيه يده، وصب الماء من فوق القميص، وإن كانت أكمامه ضيقة... فإن الشافعي قال: (ينزع القميص، ويطرح على عورته خرقة، ويغسل).
وقال أبو علي بن أبي هريرة: فيشق فوق الدخاريص، ويدخل يده فيه، هذا مذهبنا، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (الأفضل أن يجرد، ولا يغسل في قميص).
دليلنا: ما روي عن عائشة أم المؤمنين: أنها قالت: «لما مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمعنا صوتًا، ولم ندر من يتكلم: اغسلوا نبي الله في ثيابه، فغسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قميصه، والماء يصب من فوق القميص»، ولأن ذلك أستر، فكان أولى.

.[مسألة: موضع الميت حال الغسل]

قال المزني: ويفضى بالميت إلى مغتسله، ويكون كالمنحدر قليلاً، ويعاد تليين مفاصله، وهذا صحيح، إذا أريد غسل الميت، فإنه يجعل على ألواح، ويكون منحدرًا من قبل رجليه؛ لئلا يقف الماء، فيستنقع الميت فيه، وتسترخي مفاصله.
قال أصحابنا: وأما تليين مفاصله عند الغسل: فلا يعرف في شيء من كتب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يحتاج إليه؛ لأن بدنه قد برد، فلا ينفعه ذلك. فلا معنى لما ذكره المزني من ذلك.
ويستحب أن يكون مع الغاسل ثلاثة آنية:
إناء كبير، كالحب، يكون فيه الماء بالبعد منه؛ لئلا يتطاير إليه شيء من النجاسة إن كان هناك.
وإناء صغير أصغر من الأول بقرب الغاسل.
وإناء صغير بيد المعين يغرف به من الإناء الكبير إلى الذي هو أصغر منه، ثم من ذلك الإناء إلى الميت.
والماء البارد أولى من المسخن، إلا أن يكون بالميت وسخ لا يزيله إلا المسخن، أو كان البرد شديدًا لا يقدر الغاسل على استعمال الماء البارد، فلا بأس بالمسخن.
وقال أبو حنيفة: (المسخن أولى بكل حال).
دليلنا: أن البارد يشد بدنه، والمسخن يرخيه، فكان البارد أولى.

.[فرع: إعداد الغاسل الخرق ونحوها]

ويعد الغاسل خرقتين، فيلف إحداهما على يديه، ويغسل بها فرجيه، وأسفله، ويرمي بها، ويأخذ الأخرى، فيغسل بها بقية بدنه، ولو غسل كل عضو بخرقة... كان أولى؛ لما روي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبيديه خرقة يتبع بها ما تحت القميص).
ولو غسل الخرقة التي نجاه بها، وغسل بها بدنه... جاز.
ولا يجوز للغاسل أن يمس عورة الميت بيديه، ولا ينظر إليها، كما لا يجوز له ذلك في حال حياته، ويغض بصره عن سائر بدنه، إلا ما لا بد له منه.
ويستحب أن يكون بقربه مجمرة فيها بخور أو عود؛ لئلا يظهر ريح شيء إن خرج من الميت، فتضعف نفس الغاسل ومن يعينه.

.[مسألة: كيفية الغسل]

وأول ما يبدأ به الغاسل: أن يجلس الميت إجلاسًا رفيقًا، ويكون جلوسه مائلاً على ظهره، ولا ينصبه نصبًا مستويًا؛ لأنه إذا نصبه نصبًا مستويًا... لم يخرج منه شيء، ويمر يده على بطنه إمرارًا بليغًا؛ لما روي: (أن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما غسل عبد الله بن عبد الرحمن، فنفضه نفضًا شديدًا، وعصره عصرًا شديدًا، ثم غسله).
ولأنه إذا فعل به ذلك، وكان في جوفه شيء... خرج منه، وإذا لم يفعل به ذلك ربما خرج منه ما بجوفه بعد كمال غسله، أو بعد تكفينه، فيفسد بدنه أو كفنه.
ويلف الغاسل على يده إحدى الخرقتين المعدتين، فيدخل يده التي تلف الخرقة عليها بين فخذيه، ويصب عليه الماء، فيغسل بها مذاكيره، ويصب عليه الماء صبًا كثيرًا؛ ليذهب ما خرج من جوفه، ثم يرمي بهذه الخرقة، ويغسل يديه بماء وأشنان إن كان عليها نجاسة، ثم يأخذ الخرقة الأخرى، ويلفها على يده، فيوضئ الميت، فيبدأ بالمضمضة والاستنشاق، ويدخل أصابعه في فمه، ويمرها على ظاهر أسنانه بالماء، ولا يفغر فاه، أي: لا يفتحه، ويدخل أصبعه في خيشومه؛ ليزيل وسخًا إن كان هناك، ثم يغسل وجهه ويديه، ويمسح رأسه، ويغسل رجليه.
وقال أبو حنيفة: (لا تستحب المضمضة والاستنشاق في غسل الميت).
دليلنا: «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن غسل ابنته: ابدأن بمواضع الوضوء منها» ومعلوم: أن موضع المضمضة والاستنشاق من مواضع الوضوء، ثم يغسل رأسه، ثم لحيته، بالماء والسدر والخطمي.
وقال النخعي: يبدأ بلحيته قبل رأسه.
دليلنا: أنه إذا غسل لحيته أولاً، ثم غسل رأسه... نزل الماء والسدر إلى لحيته، فيحتاج إلى غسلها من ذلك ثانيًا.
وإذا بدأ بغسل رأسه، لم ينزل من لحيته إلى رأسه شيء، فكانت البداية بالرأس أولى.
وإن كان شعر الرأس واللحية متلبدًا... سرحهما بمشط منفرج الأسنان.
وقال أبو حنيفة: (لا يسرحهما بمشط).
دليلنا: ما روي «عن أم عطية: أنها قالت ضفرنا شعر ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة قرون، وألقيناها خلفها». وهذا لا يكون إلا بعد التسريح.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افعلوا بميتكم ما تفعلون بعروسكم». ومعلوم: أن شعر العروس يسرح، فكذلك شعر الميت.
ثم يغسل صفحة عنقه اليمنى، ثم شق صدره، وجنبه، وفخذه، وساقه الأيمن، ثم يعود إلى شقه الأيسر، فيغسله من صفحة عنقه الأيسر كذلك، ثم يحرفه على جانبه الأيسر، فيغسل جانب ظهره الأيمن وقفاه إلى ساقه الأيمن، ثم يحرفه على جانبه الأيمن، فيغسل جانب ظهره الأيسر وقفاه إلى ساقه الأيسر.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع آخر: إنه يغسل جانبه الأيمن من مقدمه ويحوله، ثم يغسل جانب ظهره الأيمن، ثم يعود إلى جانبه الأيسر من مقدمه، فيغسله، ثم يحوله، ويغسل جانب ظهره الأيسر، وأيها فعل... أجزأه، إلا أن الأول أولى، ويكون ذلك بالماء المخلوط فيه السدر.
وإن كان عليه وسخ كثير لا يزول إلا بالأشنان... لم يكن باستعماله بأس، فإذا فرغ من غسله بالماء المخلوط فيه السدر، صب عليه الماء القراح - وهو الذي لا يخالطه غيره - من قرنه إلى قدميه، على جميع بدنه، ويكون الغسل المعتد به هو هذا الغسل بالماء القراح، دون الغسل بالماء والسدر.
وقال أبو إسحاق المروزي: يعتد بالغسل بالماء والسدر من الغسلات. وليس بشيء؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وكل ما صب عليه الماء بعد السدر، حسب ذلك غسلاً)، ولأن الماء إذا خلط فيه السدر... سلب صفته.
إذا ثبت هذا: فإنه يستحب أن يغسل وترًا، ثلاث مرات، أو خمسًا، أو سبعًا، كما ذكرناه، في كل مرة يغسل بالماء والسدر، ثم يصب عليه الماء القراح، فيحتسب الغسل بالماء القراح، ويستحب أن يجعل الكافور في الماء القراح في كل غسلة، فإن لم يمكن... ترك في الغسلة الأخيرة.
وقال أبو حنيفة: (يغسل ثلاث مرات، أولها: بالماء القراح، والثانية: بالماء والسدر، والثالثة: بالماء القراح، ولا يستحب الكافور).
وقال مالك: (لا حد في الغسل).
دليلنا: ما روت أم عطية: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في غسل ابنته: اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا بماء وسدر، أو أكثر إن رأيتن ذلك، واجعلن في الغسلة الأخيرة كافورًا، أو شيئًا من كافور».
وظاهر الخبر يقتضي: أن كل غسلة منها تكون بالسدر.
والواجب غسل مرة واحدة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم الذي خر من بعيره: «اغسلوه بماء وسدر». وذلك لا يقتضي أكثر من مرة، ولأن غسل الحي يجزئ مرة واحدة، فكذلك غسل الميت.
ويستحب أن يمر يده على بطنه، ويعصرها في كل مرة، إلا أنه يبالغ في المرة الأولى، ويرفق فيما بعدها، ويتفقده عند آخر غسلة، فإن خرج من أحد فرجيه شيء... قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يعاد غسله)، واختلف أصحابنا فيه:
فقال المزني وغيره من أصحابنا: يجب غسل الموضع لا غير، وهو قول مالك، والثوري، وأبي حنيفة رحمة الله عليهم؛ لأن غسله قد صح، فلا يبطل بالحدث، كالجنب إذا اغتسل، ثم أحدث، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يعاد غسله) أراد: استحبابًا، لا وجوبًا.
وقال أبو إسحاق: يجب غسل الموضع، وغسل أعضاء الوضوء، كالحي إذا اغتسل من الجنابة، ثم أحدث.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: يجب إعادة غسل جميع بدنه، وهو قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه خاتمة طهارته.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا أضعف الوجوه، والأول هو الصحيح.

.[فرع: تنشيف المغسل]

فإذا فرغ من غسله... قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فإنه ينشف في ثوب، ثم يصير في أكفانه، وإنما كان كذلك؛ لأن عادة الحي إذا اغتسل أن ينشف في ثوب، ثم يلبس ثيابه، فكذلك الميت، ولأنه إذا لم يفعل ذلك ابتلت أكفانه، وأسرع الفساد إليها).
وإن تعذر غسل الميت؛ لعدم الماء أو لغيره... يمم؛ لأنه غسل لا يتعلق بإزالة عين، فناب التيمم عنه عند العجز، كغسل الجنابة.

.[مسألة: غسل الجنب والحائض للميت]

يجوز للجنب والحائض غسل الميت، وكره ذلك الحسن، وابن سيرين، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يغسله الجنب).
دليلنا: أن الجنب والحائض طاهران، فلم يمنعا من غسل الميت.
وإن مات الجنب أو الحائض... غسلا غسلاً واحدًا.
وقال الحسن: يغسلان غسلين، وهذا ليس بصحيح؛ لأن موجبهما واحد، وهو الحدث، فتداخلا، كغسل الجنابة والحيض في حال الحياة.

.[مسألة: لا يختن الأقلف بعد موته]

وإذا مات الرجل، وهو أغلف لم يختن... فهل يختن بعد موته؟ فيه وجهان، حكاهما في "الفروع":
أحدهما: يختن، صغيرًا كان أو كبيرًا.
والثاني: إن كان صغيرًا، لم يختن، وإن كان كبيرًا... ختن.
وقال سائر أصحابنا: لا يختن، من غير تفصيل؛ لأنه قطع عضو، والميت لا يقطع منه عضو.
وأما تقليم الأظافر، وحف شاربه، وحلق عانته، ونتف إبطه: فقال الشيخ أبو حامد: لا خلاف على المذهب: أنه لا يستحب، ولكن هل يكره؟ فيه قولان:
أحدهما: يكره؛ لأنه متصل بالميت، فلم يقطع منه، كموضع الختان.
فإن قلنا بهذا: أخذ الغاسل خلة من شجرة لينة لا تجرح، ويتبع بها ما تحت أظافيره.
والثاني: لا يكره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افعلوا بميتكم، ما تفعلون بعروسكم».
والعروس يفعل به هذا، فكذلك الميت.
وروي: (أن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: غسل ميتًا، فدعا بموسى، وحلقه). ولا يعرف له مخالف.
فإذا قلنا بهذا: فإن شاء... حلقه بالنورة، وإن شاء بالموسى.
وأما شعر رأسه: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحلق؛ لأن شعر الرأس إنما يحلق لزينة، أو نسك، والميت لا يزين، ولا نسك عليه.
وقال أبو إسحاق: فإن كان شعره جمة... لم يحلق؛ لأن حلقه ليس بزينة في حقه، وإن كان ممن يحلق رأسه في حياته في العادة فحلقه تنظيف في حقه، وهل يكره حلقه؟ على القولين في حلق شعر العانة، والمذهب الأول.

.[فرع: غسل المرأة كالرجل]

وإن كان الميت امرأة... كان غسلها كغسل الرجل، وإن كان لها شعر ضفر بعد الغسل ثلاث ضفائر، وألقين خلفها.
وقال أبو حنيفة: (لا يسرح، ويجعل بين يديها).
دليلنا: ما ذكرناه من حديث أم عطية في غسل ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

.[مسألة: غسل المغسل]

وإذا فرغ الغاسل من غسل الميت... اغتسل، وهل يجب ذلك عليه، أو يستحب؟ فيه قولان:
أحدهما: يستحب، ولا يجب، وبه قال ابن عباس، وابن عمر، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأن الميت طاهر، ومن غسله طاهر، فهو كما لو غسل جنبًا.
والثاني: يجب، وبه قال علي، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتًا... فليغتسل، ومن مسه فليتوضأ».
والأول أصح، والخبر محمول على الاستحباب، بدليل: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا غسل عليكم من غسل ميتكم، حسبكم أن تغسلوا أيديكم».
وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (أأنجاس موتاكم؟!)، تريد بذلك: الإنكار على من قال بوجوب الغسل من غسل الميت.
وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والوضوء من مسه»: فيحتمل أنه أراد: من مس ذكره، ويحتمل أنه أراد: الوضوء، لا لأجل مسه، ولكن لأجل الصلاة عليه عند مسه، حتى لا تفوته الصلاة إذا اشتغل بالوضوء بعد غسله، ويحتمل أنه أراد: غسل اليد.
إذا ثبت: أن الغسل من غسل الميت لا يجب... فهل هو آكد، أو غسل الجمعة؟ فيه قولان:
أحدهما: أن غسل الجمعة آكد؛ لأن الأخبار فيه أثبت.
والثاني: أن الغسل من غسل الميت آكد، وهو الأصح؛ لأنه مختلف في وجوبه عندنا، بخلاف غسل الجمعة.
ويستحب لمن غسل ميتًا، فرأى ما يعجبه، مثل: تهلل وجهه، وما أشبه ذلك... أن يتحدث به، وإن رأى ما يكرهه، مثل: اسوداد وجهه، وما أشبه ذلك أن لا يتحدث به؛ لما روى أبو رافع: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتًا، فكتم عليه... غفر الله له أربعين مرة».
وإن كان الميت مبتدعًا مظهرًا لبدعته، ورأى الغاسل منه ما يكرهه، فالذي يقتضي القياس: أن يتحدث به الغاسل في الناس، ليكون ذلك زجرًا للناس عن البدعة. والله أعلم، وبالله التوفيق.

.[باب الكفن]

وتكفين الميت فرض على الكفاية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم الذي خر من بعيره، فمات: «وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما».
ويجب الكفن ومؤنة الغسل والدفن من رأس مال الميت مقدمًا على الدين، سواء كان موسرًا أو معسرًا، وبه قال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما.
وقال الزهري، وطاووس: إن كان موسرًا، فمن رأس ماله، وإن كان معسرًا، فمن ثلثه.
وقال خلاس بن عمرو: يجب من ثلثه بكل حال.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذي سقط من بعيره، فوقص، فمات: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما». ولم يسأل، هل يخرجان من ثلثه، أم لا؟ أو هل هو موسر، أو معسر؟.
وروي: «أن رجلاً من الأنصار مات، فقدموا جنازته إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي عليه، فقال: هل على صاحبكم دين؟، فقالوا: نعم، عليه ديناران، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلوا على صاحبكم، فتحملها أبو قتادة، فصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه».
فلو كان الكفن محتسبًا من الثلث... لوجب صرف كفنه في الدينارين.
فإن قال بعض الورثة: أنا أكفنه من مالي، وقال بعضهم: بل يكفن من التركة... كفن من التركة؛ لأن في كفنه من مال بعض الورثة منة على الباقين، فلم يلزمهم قبولها.
وإن كان الميت امرأة لها زوج، ففيه وجهان:
أحدهما: وهو قول أبي إسحاق -: أنه يجب على زوجها؛ لأن من وجبت كسوته على شخص في حال الحياة... وجب كفنه عليه في الموت، كالمملوك.
والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: إنه لا يجب على الزوج، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد؛ لأن الكسوة إنما وجبت عليه في حياتها؛ لأجل تمكينها له من الاستمتاع، وقد عدم ذلك بموتها.
فعلى هذا: يجب في مالها، فإن لم يكن لها مال... فعلى قرابتها الذين تلزمهم نفقتها لو لم يكن لها زوج، فإن لم يكن ففي بيت المال. والأول أصح.